من تراب العفراء خلقني ربي ...
وجعل لون جسدي أعفر ،
لون الأرض أمي ...
ومتى تحرر جسدي من نسمة الحياة الحالة فيه أو هي تحررت منه ،
لتعود إلى الله واهبها ، عاد جسدي إلى التراب كما كان .
ما أعظم اعتزازي بحقيقة كوني تراباً ! ....
إني لفخور بالأرض ، لأني منها ،
وهي أيضاً مني ....
وهذه العلاقة الوثقى بدأت في البدء ولن تنفصم حتى النهاية ! ...
فأرضى هي أعزّ ما أملك في حياتي ...
ينابيع مياهها العذبة أروت ظمئي ،
وحنطتها الفاخرة الغنية ،
وثمار أشجارها السائغة الشهية ،
وبقولها المخضوضر الموسمية ، أشبعت جوعي .
ولحوم ما شيتها المسمنة ، وطيرها وأسماكها ، أغنت مائدتي دسماً ...
إنها حقاً الأرض التي تدر لبناً وعسلاً .
ألا يحقّ لي اذن أثور على الذين اغتصبوا أرضي مني ظلماً وعدواناً ؟ ...
حيث أنهم قد سلبوني ذاتي ، وشخصيتي ، ولغتي
إذ سلبوني ترابي .
بل كأنهم ذبحوا أطفالي على مرأى مني
تقدمةً ومحرقةً لإلهة أنانيتهم اللعينة .
وقالوا لي : تشرّد أيها الإنسان الضعيف !
تشرّد في افاق الدنيا ...
لأنك لن تملك بعد الان تراباً تنتسب إليه وينتسب إليك .
رحت أفتش ن تراب اخر يماثل ترابي .
ليستريح عليه جسدي ،
ولكن خاب ظني...
لقد أخفيت في حقيبتي الواحدة الوحيدة ،
وأنا أغادر وطني شريداً ،
حفنة من ترابه بل من ترابي ...
وعقدت المقارنة ما بينه وبين ما صادفني ، في طريق غلابتي .
من أتربة ، فبان لي البون الشاسع بينه وبينها .
فترابي هو أصل الإنسان ،
وأساس حضارة الإنسانية ... ف
فكيف تريدني أن أنسجم
شعوراً ، وفكراً ، وروحاً ، مع تراب سواه ؟! ..
على ضفاف أنهار الامي ،
حلت للناس أنغامي ،
ولكن لم أجد أحداً يداوي جرحي الدامي ...
بل سألوني لأصوغ من بكائي ألحاناً تطربهم .
وأن أعزف على قيثارة قلبي الكئيب أنغاماً تبهج أرواحهم الظالمة وأفئدتهم العاتية ...
لكنني ، كالنبي الشريد ، على الصفصاف علقت عودي ، حيث لا تطال يد على تدنيس قدسيته .
وفوق أعالي أشجار النحيل خبأت قيثارتي ...
كيف أرنم ترانيم ترابي في أرض الغربة ؟! ...
شرّدوني في الأرض ...
وجردوني من شخصيتي ، وهويتي ، وذاتي ...
وخدعوني بهناء زائل وسلام مؤقت ،
ليبعدوني عن الجهاد ، والنضال ، والكفاح في سبيل إعادة ترابي المحبوب المسلوب ...
وحيّروني إذ خيروني يوم أوقفوني على مفرق الطريق ، وأنا لا أعلم أيها يتهي بي إلى ترابي .
لقد حملت سمات الجهاد الحقيقي في جسدي ،
والطموح في روحي ، والشجاعة في قلبي .
ولكنني أفتقر إلى قائد أمين ، ومرشد مخلص ، ودليل صادق ، ليريني الطريق ...
أمامي رؤوس عديدة ،
كلّ يدعى الأمانة ، والإخلاص والصدق .
يا ترى اثار أيهم أتبع ، وصوت أيهم أسمع ؟
حيّروني إذ خيروني .
فغدوت لا أعلم من هو رأسي ،
وأين هو مركز السيطرة والإدارة في جسمي وترابي .
لقد أسقط في يدي ...
وبتّ لا أميز ما بين صديقي وعدوي ...
بل نسيت في غربتي المسؤول عن مأساة تشريدي .
لقد تمرّد ترابي بزلازل رهيبة مخيفة وبراكين ثائرة مرعبة ،
معلناً رفضه التام للغرباء المسؤولين عليه ...
إنه ينتظر بفارغ الصبر أوبتي ليفرح بعودتي ،
فرح الأب الحنون باستقبال ابنه الضال ...
أماه ! متى تنتهي فصول هذه ( الدراما) التي اختلط بها المحزن بالمضحك ؟
متى يسدل الستار على هذه الفاجعة الأليمة ؟!
متى يستيقظ ضمير العالم فيعود الحق إلى نصابه ؟!
أستحلفكم بأعز ما تحبون ، يا جميع عابري الطريق ... إذا ما تجندل جسدي في وديان الغربة ، مصروعاً بأشواق العودة ،
وانقطع اخر وتر من أوتار الحياة في قيثارتي المهشمة المحطمة ،
وألقي الجسد مفترشاً تراب البسيطة غريباً ،
ألا أصيخوا بأذانكم إلى همسات روحية ،
وهي تحوم حوله وحولكم من عليائها ثائرة محتجة ،
لأن الجسد قد غلب على أمره ،
ورقد على تراب ليس بترابه ...
تراب لم يجبله بعرق جبينه ،
يوم أكل خبزه بعرق جبينه ولم يضمّخه بدم قلبه ،
يوم كان جرح فؤاده يتفجّر حب لا تنضب دماؤها .
لقد جردني الإنسان القاسي من ترابي ،
وهذه الحفنة الثمينة من تراب وطني ، التي احتفظ بها كأعزّ
ما أملك في الحياة الدنيا ،
حفنة التراب هذه ،
درؤها على جسدي المسجّى ، جثة هامدة ليتضمخ جسدي بتراب ابائي
فهو التراب الذي أخذت منه .
وجبل منه جسدي ،
ففيه سيماء ذاتي ،
وفيه تكمن صفات الوراثة التي أعتز بها ،
لأنه المفخرة الباقية من رفات ابائي وأجدادي ...
بل هو ترابهم الأصيل وترابي .
مابين اليأس والرجاء ،
قامت في داخلي معارك طاحنة
كادت تحطم نفسي على صخرة الانتظار ...
ولكنني وأنا أحيا في وسط الظلام الدامس ،
أرى إلهي نوراً باهراً ينير الطريق أمامي ،
فالرب حصن حياتي ...
أنا مؤمن بقدرة إلهي ،
وواثق بنفسي ...
فالأمل الباسم قد انتصر على اليأس والقنوط ...
أنا نؤمن بأن ترابي سيرد إليّ ،
وسأملك فردوس عدن ثانية ...
لذلك يحقّ لي أن أتناول من على الصفصاف عودي ،
ومن أعالي النخيل قيثارتي ،
وأرنّم ترانيم الظفر ،
فأنا لترابي وترابي لي .
0 التعليقات:
إرسال تعليق